الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
اعلم أن الشكر من جملة مقامات السالكين وهو أيضاً ينتظم من علم وحال وعمل فالعلم هو الأصل فيورث الحال والحال يورث العمل فهو معرفة النعمة من المنعم والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه. ويتعلق ذلك بالعمل بالقلب وبالجوارح وباللسان ولا بد من بيان جميع ذلك ليحصل بمجموعه الإحاطة بحقيقة الشكر فإن كل ما قيل في حد الشكر قاصر عن الإحاطة بكمال معانيه. فالأصل الأول العلم: وهو علم بثلاثة أمور بعين النعمة ووجه كونها نعمة في حقه وبذات المنعم ووجود صفاته التي بها يتم الإنعام ويصدر الإنعام منه عليه. فإنه لا بد من: نعمة ومنعم ومنعم عليه تصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة فهذه الأمور لا بد من معرفتها هذا في حق غير الله تعالى فأما في حق الله تعالى فلا يتم إلا بأن يعرف أن النعم كلها من الله وهو المنعم والوسائط مسخرون من جهته. وهذه المعرفة وراء التوحيد والتقديس إذ دخل التقديس والتوحيد فيها. بل الرتبة الأولى في معارف الإيمان: التقديس. ثم إذا عرف ذاتاً مقدسة فيعرف أنه لا مقدس إلا واحد وما عداه غير مقدس: وهو التوحيد. ثم يعلم أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط فالكل نعمة منه فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد: كمال القدرة والانفراد بالفعل. وعن هذا عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " من قال سبحان الله فله عشر حسنات ومن قال لا إله إلا الله فله عشرون حسنة ومن قال الحمد لله فله ثلاثون حسنة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ". وقال: " ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد لله ". ولا تظنن أن هذه الحسنات بإزاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير حصول معانيها في القلب فسبحان الله كلمة تدل على التقديس ولا إله إلا الله كلمة تدل على التوحيد والحمد لله كلمة تدل على النعمة من الواحد الحق. فالحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي من أبواب الإيمان واليقين. واعلم أن تمام هذه المعرفة ينفي الشرك في الأفعال فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى لوزيره أو وكيله دخلاً في تيسير ذلك وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه بل منه بوجه ومن غيره بوجه فيتوزع فرحه عليهما فلا يكون موحداً في حق الملك. نعم لا يغض من توحيده في حق الملك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه بتوقيعه الذي كتبه بقلمه وبالكاغد الذي كتبه عليه فإنه لا يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما لأنه لا يثبت لهما دخلاً من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما مسخران تحت قدرة الملك. وقد يعلم أن الوكيل الموصل والخازن أيضاً مضطران من جهة الملك في الإيصال وأنه لو رد الأمر إليه ولم يكن من جهة الملك إرهاق وأمر جازم يخاف عاقبته لما سلم إليه شيئاً فإذا عرف ذلك كان نظره إلى الخازن الموصل كنظره إلى القلم والكاغد فلا يورث ذلك شركاً في توحيده من إضافة النعمة إلى الملك. وكذلك من الكاتب وأن الحيوانات التي لها اختيار مسخرات في نفس اختيارها فإن الله تعالى هو المسلط للدواعي عليها لتفعل - شاءت أم أبت - كالخازن المضطر الذي لا يجد سبيلاً إلى مخالفة الملك ولو خلي ونفسه لما أعطاك ذرة مما في يده. فكل من وصل إليك نعمة من الله تعالى على يده فهو مضطر إذ سلط الله عليه الإرادة وهيج عليه الدواعي! وألقى في نفسه أن خيره في الدنيا والآخرة أن يعطيك ما أعطاك وأن غرضه المقصود عنده في الحال والمآل لا يحصل إلا به. وبعد أن خلق الله له هذا الاعتقاد لا يجد سبيلاً إلى تركه فهو إذن إنما يعطيك لغرض نفسه لا لغرضك ولو لم يكن غرضه في العطاء لما أعطاك ولو لم يعلم أن منفعته في منفعتك لما نفعك فهو إذن إنما يطلب نفع نفسه فليس منعماً عليك بل اتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى وهو يرجوها وإنما الذي أنعم عليك هو الذي سخره لك وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطراً إلى الإيصال إليك. فإن عرفت الأمور كذلك فقد عرفت الله تعالى وعرفت فعله ولذلك قال موسى عليه السلام في مناجاته إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت فكيف شكرك فقال الله عز وجل: علم أن كل ذلك مني فكانت معرفته شكراً. فإذن لا تشكر إلا بأن تعرف أن الكل منه فإن خالجك ريب في هذا لم تكن عارفاً لا بالنعمة ولا بالمنعم فلا تفرح بالمنعم وحده بل وبغيره فبنقصان معرفتك ينقص حالك من الفرح وبنقصان فرحك ينقص عملك فهذا بيان هذا الأصل. الأصل الثاني الحال المستمدة من أصل المعرفة: وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والتواضع وهو أيضاً في نفسه شكر على تجرده كما أن المعرفة شكر ولكن إنما يكون شكراً إذا كان حاوياً شرطه وشرطه أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالإنعام ولعل هذا يتعذر عليك فهمه فنضرب لك مثلاً فنقول: الملك الذي يريد الخروج إلى سفره بفرس على إنسان يتصور أن يفرح المنعم عليه بالفرس من ثلاثة أوجه: أحدها أن يفرح بالفرس من حيث أنه فرس وإنه مال ينتفع به ومركوب يوافق غرضه وإنه جواد نفيس وهذا فرح من لاحظ له في الملك بل غرضه الفرس فقط ولو وجده في صحراء فأخذه لكان فرحه مثل ذلك الفرح. الوجه الثاني أن يفرح به لا من حيث إنه فرس بل من حيث تستدل به على عناية الملك به وشفقته عليه واهتمامه بجانبه لو وجد هذا الفرس في صحراء أو أعطاه غير الملك لكان لا يفرح به أصلاً لاستغنائه عن الفرس أصلاً أو استحقاره له بالإضافة إلى خلوه من نيل المحل في قلب الملك. الوجه الثالث أن يفرح به ليركبه ليخرج في خدمة الملك ويتحمل مشقة السفر لينال بخدمته القرب منه وربما يرتقي إلى درجة الوزارة من حيث إنه ليس يقنع بأن يكون محله في قلب الملك أن يعطيه فرساً ويعتني به هذا القدر من العناية بل هو طالب لأن لا ينعم الملك بشيء من ماله على أحد إلا بواسطته ثم إنه ليس يريد من الوزارة الوزارة بل يريد مشاهدة الملك والقرب منه حتى لو خير بين القرب منه دون الوزارة وبين الوزارة دون القرب لاختار القرب فهذه ثلاث درجات فالأولى لا يدخل فيها معنى الشكر أصلاً لأن نظر صاحبها مقصور على الفرس ففرحه بالفرس لا بالمعطى وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه فهو بعيد عن معنى الشكر والثانية داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم ولكن لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه وإنما الشكر التام في الفرح الثالث وهو أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام فهذا هو الرتبة العليا وأمارته أن لا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه عليها ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله لأنه ليس يريد النعمة لأنها لذيذة كما يريد صاحب الفرس الفرس أنه جواد ومهملج بل من حيث إنه يحمله في صحبة الملك حتى تدوم مشاهدته له وقربه منه ولذلك قال الشبلي رحمه الله: الشكر رؤية المنعم لا رؤية وقال الخواص رحمه الله: شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب. وشكر الخاصة على واردات القلوب وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن والفرج ومدركات الحواس من الألوان والأصوات وخلا عن لذة القلب فإن القلب لا يلتذ في حال الصحة إلا بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه وإنما يلتذ بغيره إذا مرض بسوء العادات كما يلتذ بعض الناس بأكل الطين وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة ويستحلي الأشياء المرة كما قيل: ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا فإذن هذا شرط الفرح بنعمة الله تعالى فإن لم تكن إبل فمعزى فإن لم يكن هذا فالدرجة الثانية أما الأولى فخارجة عن كل حساب فكم من فرق بين من يريد الملك للفرس ومن يريد الفرس للملك وكم من فرق بين من يريد الله لينعم عليه وبين من يريد نعم الله ليصل بها إليه. الأصل الثالث: العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم وهذا العمل يتعلق بالقلب وباللسان وبالجوارح أما بالقلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق. وأما باللسان فإظهار الشكر لله تعالى بالتحميدات الدالة عليه وأما بالجوارح: فاستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته حتى إن شكر العينين: أن تستر كل عيب تراه لمسلم وشكر الأذنين: أن تستر كل عيب تسمعه فيه فيدخل هذا في جملة شكر نعم الله تعالى بهذه الأعضاء والشكر باللسان: لإظهار الرضا عن الله تعالى وهو مأمور به فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل: " كيف أصبحت " قال بخير فأعاد صلى الله عليه وسلم السؤال حتى قال في الثالثة: بخير أحمد الله وأشكره فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " هذا الذي أرد منك " وكان السلف يتساءلون ونيتهم استخراج الشكر لله تعالى ليكون الشاكر مطيعاً والمستنطق له به مطيعاً وما كان قصدهم الرياء بإظهار الشوق وكل عبد سئل عن حال فهو بين أن يشكر أو يشكو أو يسكت فالشكر طاعة والشكوى معصية قبيحة من أهل الدين وكيف لا تقبح الشكوى من ملك الملوك وبيده كل شيء إلى عبد مملوك لا يقدر على شيء فالأحرى بالعبد إن لم يحسن الصبر على البلاء والقضاء وأفضى به الضعف إلى الشكوى أن تكون شكواه إلى الله تعالى فهو المبلي والقادر على إزالة البلاء. وذل العبد لمولاه عز والشكوى إلى غيره ذل وإظهار الذل قال الله تعالى: " إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له " وقال تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " فالشكر باللسان من جملة الشكر. وقد روي أن وفداً قدموا على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقام شاب ليتكلم فقال عمر: الكبر الكبر! فقال: يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسن منك! فقال: تكلم فقال: لسنا وفد الرغبة ولا وفد الرهبة أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك وأما الرهبة فقد آمننا منها عدلك وإنما نحن وفد الشكر جئناك نشكرك باللسان وننصرف. فهذه هي أصول معاني الشكر المحيطة بمجموع حقيقته. فأما قول من قال إن الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع فهو نظر إلى فعل اللسان مع بعض أحوال القلب. وقول من قال إن الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه نظر إلى مجرد عمل اللسان وقول القائل: إن الشكر هو الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة جامع لأكثر معاني الشكر لا يشذ منه إلا عمل اللسان. وقول حمدون القصار شكر النعمة: أن ترى نفسك في الشكر طفيلياً إشارة إلى أن معنى المعرفة من معاني الشكر فقط وقول الجنيد الشكر: أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة إشارة إلى حال من أحوال القلب على الخصوص وهؤلاء أقوالهم تعرب على أحوالهم فلذلك تختلف أجوبتهم ولا تتفق ثم قد يختلف جواب كل واحد في حالتين لأنهم لا يتكلمون إلا عن حالتهم الراهنة الغالبة عليهم اشتغالاً بما يهمهم عما لا يهمهم أو يتكلمون بما يرونه لائقاً بحالة السائل اقتصاراً على ذكر القدر الذي يحتاج إليه وإعراضاً عما لا يحتاج إليه فلا ينبغي أن تظن أن ما ذكرناه طعن عليهم وأنه لو عرض عليهم جميع المعاني التي شرحناها كانوا ينكرونها بل لا يظن ذلك بعاقل أصلاً إلا أن تعرض منازعة من حيث اللفظ في أن اسم الشكر في وضع اللسان هل يشمل جميع المعاني أم يتناول بعضها مقصوداً وبقية المعاني تكون من توابعه ولوازمه ولسنا نقصد في هذا الكتاب شرح موضوعات اللغات فليس ذلك من علم طريق الآخرة في شيء والله الموفق برحمته. لعلك يخطر ببالك أن الشكر إنما يفعل في حق منعم هو صاحب حظ في الشكر فإنا نشكر الملوك إما بالثناء ليزيد محلهم في القلوب ويظهر كرمهم عند الناس فيزيد به صيتهم وجاههم أو بالخدمة التي هي إعانة لهم على بعض أغراضهم أو بالمثول بين أيديهم في صورة الخدم وذلك تكثير لسوادهم وسبب لزيادة جاههم فلا يكون شاكرين لهم إلا بشيء من ذلك وهذا محال في حق الله تعالى من وجهين: أحدهما أن الله تعالى منزه عن الحظوظ والأغراض مقدس عن الحاجة إلى الخدمة والإعانة وعن نشر الجاه والحشمة بالثناء والإطراء وعن تكثير سواد الخدم بالمثول بين يديه ركعاً سجداً فشكرنا إياه بما لا حظ فيه يضاهي شكرنا الملك المنعم علينا بأن ننام في بيوتنا أو نسجد أو نركع إذ لا حظ للملك فيه وهو غائب لا علم له ولا حظ لله تعالى في أفعالنا كلها. الوجه الثاني: أن كل ما نتعاطاه باختيارنا فهو نعمة أخرى من نعم الله علينا إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وداعيتنا وسائر الأمور التي هي أسباب حركتنا ونفس حركتنا من خلق الله تعالى ونعمته فكيف نشكر نعمة بنعمة ولو أعطانا الملك مركوباً فأخذنا مركوباً آخر له وركبناه أو أعطانا الملك مركوباً آخر لم يكن الثاني شكر للأول منا بل كان الثاني يحتاج إلى شكر كما يحتاج الأول ثم لا يمكن شكر الشكر إلا بنعمة أخرى فيؤدي إلى أن يكون الشكر محالاً في حق الله تعالى من هذين الوجهين. ولسنا نشك في الأمر جميعاً والشرع قد ورد به فكيف السبيل إلى الجمع فاعلم أن هذا الخاطر لداود عليه السلام وكذلك لموسى عليه السلام فقال: يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك وفي لفظ آخر: وشكري لك نعمة أخرى منك توجب على الشكر لك فأوحى الله تعالى إليه: إذا عرفت هذا فقد شكرتني وفي خبر آخر: إذا عرفت أن النعمة مني رضيت منك بذلك شكراً. فإن قلت: فقد فهمت السؤال وفهمي قاصر عن إدراك معنى ما أوحى إليهم فإني أعلم استحالة الشكر لله تعالى فأما كون العلم باستحالة الشكر شكراً فلا أفهمه فإن هذا العلم أيضاً نعمة منه فكيف صار شكراً وكأن الحاصل يرجع إلى أن من لم يشكر فقد شكر وأن قبول الخلعة الثانية من الملك شكر للخلعة الأولى والفهم قاصر عن درك السر فيه فإن أمكن تعريف ذلك بمثال فهو مهم في نفسه. فاعلم أن هذا قرع باب من المعارف وهي أعلى من علوم المعاملة ولكنا نشير منها إلى ملامح ونقول: ههنا نظران: نظر بعين التوحيد المحض وهذا النظر يعرفك قطعاً أنه الشاكر وأنه المشكور وأنه المحب وأنه المحبوب وهذا نظر أنه ليس في الوجود غيره وأن كل شيء هالك إلا وجهه وأن ذلك صدق في كل أزلاً وأبداً لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام ومثل هذا الغير لا وجود له بل هو محال أن يوجد إذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه وما ليس له بنفسه قوام فليس له بنفسه وجود بل هو قائم بغيره فهو موجود بغيره فإن اعتبر ذاته ولم يلتفت إلى غيره لم يكن له وجود البتة وإنما الموجود هو القائم بنفسه والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقي موجوداً فإن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره فهو قيوم ولا قيوم إلا واحد ولا يتصور أن يكون غير ذلك فإذن ليس في الوجود غير الحي القيوم وهو الواحد الصمد فإذا نظرت من هذا المقام عرفت أن الكل منه مصدره وإليه مرجعه فهو الشاكر وهو المشكور وهو المحب وهو المحبوب ومن ههنا نظر حبيب بن أبي حبيب حيث قرأ " إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب " فقال: واعجباه أعطى وأثنى. إشارة إلى أنه إذا أثنى على إعطائه فعلى نفسه أثنى فهو المثني وهو المثني عليه ومن ههنا نظر الشيخ أبو سعيد الميهني حيث قرئ بين يديه " يحبهم ويحبونه " فقال: لعمري يحبهم ودعه يحبهم فبحق يحبهم لأنه إنما يحب نفسه أشار به إلى أنه المحب وأنه المحبوب وهذه رتبة عالية لا تفهمها إلا بمثال على حد عقلك فلا يخفى عليك أن المصنف إذا أحب تصنيفه لقد أحب نفسه والصانع إذا أحب صنعته فقد أحب نفسه والوالد إذا أحب ولده من حيث إنه ولده فقد أحب نفسه وكل ما في الوجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وصنعته فإن أحبه فما أحب إلا نفسه وإذا لم يحب إلا نفسه فبحق أحب ما أحب وهذا كله نظر بعين التوحيد وتعبر الصوفية عن هذه الحالة بفناء النفس أي فني عن نفسه وعن غير الله فلم ير إلا الله تعالى فمن لم يفهم هذا ينكر عليهم ويقول: كيف فني وطول ظله أربعة أذرع ولعله يأكل في كل يوم أرطالاً من الخبز فيضحك عليهم الجهال لجهلهم بمعاني كلامهم وضرورة قول العارفين أن يكونوا ضحكة للجاهلين وإليه الإشارة بقوله تعالى: " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذ رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين " ثم بين أن ضحك العارفين عليهم غدا أعظم إذ قال تعالى: " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون " وكذلك أمة نوح عليه السلام كانوا يضحكون عليه عند اشتغاله بعمل السفينة قال: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون " فهذا أحد النظرين. النظر الثاني: نظر من لم يبلغ إلى مقام الفناء عن نفسه وهؤلاء قسمان: قسم لم يثبتوا إلا وجود أنفسهم وأنكروا أن يكون لهم رب يعبد وهؤلاء هم العميان المنكوسون وعماهم في كلتا العينين لأنهم نفوا ما هو الثابت تحقيقاً وهو القيوم الذي هو القائم بنفسه وقائم على كل نفس بما كسبت وكل قائم فقائم به ولم يقتصروا على هذا حتى أثبتوا أنفسهم ولو عرفوا لعلموا أنهم من حيث هم هم لا ثبات لهم ولا وجود لهم وإنما وجودهم من حيث أوجدوا لا من حيث وجدوا وفرق بين الموجود وبين الموجد وليس في الوجود إلا موجود واحد وموجد فالموجود حق والموجد باطل من حيث هو هو والموجود قائم وقيوم والموجد هالك وفان وإذا كان كل من عليها فان فلا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام. الفريق الثاني: ليس بهم عمى ولكن بهم عور لأنهم يبصرون بإحدى العينين وجود الموجود الحق فلا ينكرونه والعين الأخرى إن تم عماها لم يبصر بها فناء غير الموجود الحق فأثبت موجوداً آخر مع الله تعالى وهذا مشرك تحقيقاً كما أن الذي قبله جاحد تحقيقاً: فإن جاوز حد العمى إلى العمش أدرك تفاوتاً بين الموجودين فأثبت عبداً ورباً فبهذا القدر من إثبات التفاوت والنقص من الموجود الآخر دخل في حد التوحيد ثم إن كحل بصره بما يزيد في أنواره فيقل عمشه وبقدر ما يزيد في بصره يظهر له نقصان ما أثبته سوى الله تعالى فإن بقي في سلوكه كذلك فلا يزال يفضي به النقصان إلى المحو فينمحي عن رؤية ما سوى الله فلا يرى إلا الله ليكون قد بلغ كمال التوحيد وحيث أدرك نقصاً في وجود ما سوى الله تعالى دخل في أوائل التوحيد وبينهما درجات لا تحصى فبهذا تتفاوت درجات الموحدين وكتب الله المنزلة على ألسنة رسله هي الكحل الذي يحصل أنوار الأبصار والأنبياء هم الكحالون وقد جاؤوا داعين إلى التوحيد المحض وترجمته قول: " لا إله إلا الله " ومعناه أن لا يرى إلا الواحد الحق والواصلون إلى كمال التوحيد هم الأقلون والجاحدون والمشركون أيضاً قليلون وهم على الطرف الأقصى المقابل لطرف التوحيد إذ عبدة الأوثان قالوا: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " فكانوا داخلين في أوائل أبواب التوحيد دخولاً ضعيفاً والمتوسطون هم الأكثرون وفيهم من تنفتح بصيرته في بعض الأحوال فتلوح له حقائق التوحيد ولكن كالبرق الخاطف لا يثبت وفيهم من يلوح له ذلك ويثبت لكل إلى شأو العلا حركات ولكن عزيز في الرجال ثبات ولما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب القرب فقيل له: " واسجد واقترب " قال في سجوده: " أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " فقوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بعفوك من عقابك " كلام عن مشاهدة فعل الله فقط فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله فاستعاذ بفعله من فعله " ثم اقترب ففني عن مشاهدة الأفعال " وترقى إلى مصادر الأفعال وهي الصفات فقال: " أعوذ برضاك من سخطك " وهما صفتان ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد فاقترب ورقي من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات فقال: " وأعوذ بك منك " وهذا فرار منه إليه من غير رؤية فعل وصفة ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ومستعيذاً ومثنياً ففني عن مشاهدة نفسه وإذ رأى ذلك نقصاناً واقترب فقال: " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " فقوله صلى الله عليه وسلم: " لا أحصي " خبر عن فناء نفسه وخروج عن مشاهدته وقوله: " أنت كما أثنيت على نفسك " بيان أنه المثني والمثني عليه وأن الكل منه بدأ وإليه يعود وأن كل شيء هالك إلا وجهه فكان أول مقاماته نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله تعالى وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل: فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذا انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من رتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية فكان يستغفر الله من الأولى ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " فكان ذلك لترقيه إلى سبعين مقاماً بعضها فوق البعض: أولها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات الخلق ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى آخرها فكان استغفاره لذلك. ولما قالت عائشة رضي الله عنها: أليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً " معناه. أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات. فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى: " لئن شكرتم لأزيدنكم ". وإذا تغلغلنا في بحار المكاشفة فلنقبض العنان ولنرجع إلى ما يليق بعلوم المعاملة: فنقول الأنبياء عليهم السلام بعثوا لدعوة الحق إلى كمال التوحيد الذي وصفناه ولكن بينهم وبين الوصول إليه مسافة بعيدة وعقبات شديدة وإنما الشرع كله تعريف طريق سلوك تلك المسافة وقطع تلك العقبات وعند ذلك يكون النظر عن مشاهدة أخرى ومقام آخر فيظهر في ذلك المقام بإضافة إلى تلك المشاهدة الشكر والشاكر والمشكور ولا يعرف ذلك إلا بمثال فأقول: يمكنك أن تفهم أن ملكاً من الملوك أرسل عبد قد بعد منه مركوباً وملبوساً ونقداً لأجل زاده في الطريق حتى يقطع به مسافة البعد ويقرب من حضرة الملك ثم يكون له حالتان: إحداهما أن يكون قصده من وصول العبد إلى حضرته أن يقوم ببعض مهماته ويكون له عناية في خدمته. والثانية: أن لا يكون للملك حظ في العبد ولا حاجة به إليه بل حضوره لا يزيد في ملكه لأنه لا يقوى على القيام بخدمة تغني فيه غناء وغيبته لا تنقص من ملكه فيكون قصد من الإنعام عليه بالمركوب والزاد أن يحظى العبد بالقرب منه وينال سعادة حضرته لينتفع هو في نفسه لا لينتفع الملك به وبانتفاعه فمنزل العباد من الله تعالى في المنزلة الثانية لا في المنزلة الأولى فإن الأولى محال على الله تعالى والثانية غير محال. ثم اعلم أن العبد لا يكون شاكراً في الحالة الأولى بمجرد الركوب والوصول إلى حضرته ما لم يقم بخدمته التي أرادها الملك منه وأما في الحالة الثانية فلا يحتاج إلى الخدمة أصلاً ومع ذلك يتصور أن يكون شاكراً وكافراً ويكون شكره بأن يستعمل ما أنفذه إليه مولاه فيما أحبه لأجله لا لأجل نفسه وكفره أن لا يستعمل ذلك فيه بأن يعطله أو يستعمله فيما يزيد في بعده منه فمهما لبس العبد الثوب وركب الفرس ولم ينفق الزاد إلا في الطريق فقد شكره مولاه إذ استعمل نعمته في محبته أي فيما أحبه لعبده لا لنفسه وإن ركبه واستدبر حضرته وأخذ يبعد منه فقد كفر نعمته أي استعملها فيما كرهه مولاه لعبده لا لنفسه وإن جلس ولم يركب لا في طلب القرب ولا في طلب البعد فقد كفر أيضاً نعمته إذا أهملها وعطلها وإن كان هذا دون ما لو بعد منه فكذلك خلق الله سبحانه الخلق وهم في ابتداء فطرتهم يحتاجون إلى استعمال الشهوات لتكمل بها أبدانهم فيبعدون بها عن حضرته وإنما سعادتهم في القرب منه فأعد لهم من النعم ما يقدرون على استعماله في نيل درجة القرب وعن بعدهم وقربهم عبر الله تعالى إذ قال: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددنا أسفل السافلين إلا الذين آمنوا " الآية فإذن نعم الله تعالى آلات يترقى العبد بها عن أسفل السافلين خلقها الله تعالى لأجل العبد حتى ينال بها سعادة القرب والله تعالى غني عنه قرب أم بعد والعبد فيها بين أن يستعملها في الطاعة فيكون قد شكر لموافقة محبة مولاه وبين أن يستعملها في معصيته فقد كفر لاقتحامه ما يكرهه مولاه ولا يرضاه له فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعصية وإن عطلها ولم يستعملها في طاعة ولا معصية فهو أيضاً كفران للنعمة بالتضييع وكل ما خلق في الدنيا إنما خلق آلة للعبد ليتوصل به إلى سعادة الآخرة ونيل القرب من الله تعالى فكل مطيع فهو بقدر طاعته شاكر نعمة الله في الأسباب التي استعملها في الطاعة وكل كسلان ترك أو عاص استعملها في طريق البعد فهو كافر جار في غير محبة الله تعالى فالمعصية والطاعة تشملهما المشيئة ولكن لا تشملها المحبة والكراهة بل رب مراد محبوب ورب مراد مكروه ووراء بيان هذه الدقيقة سر القدر الذي منع من إفشائه وقد انحل بهذا الإشكال الأول: وهو أنه إذا لم يكن للمشكور حظ فكيف يكون الشكر وبهذا أيضاً ينحل الثاني فإنا لم نعن بالشكر إلا انصراف نعمة الله في جهة محبة الله فإذا انصرفت النعمة في جهة المحبة بفعل الله فقد حصل المراد وفعلك عطاء من الله تعالى ومن حيث أنت محله فقد أثنى عليك وثناؤه نعمة أخرى منه إليك فهو الذي أعطى وهو الذي أثنى وصار أحد فعليه سبباً لانصراف فعله الثاني إلى جهة محبته فله الشكر على كل حال وأنت موصوف بأنك شاكر بمعنى أنك محل المعنى الذي الشكر عبارة عنه لا بمعنى أنك موجب له كما أنك موصوف بأنك عارف وعالم لا بمعنى أنك خالق للعلم وموجده ولكن بمعنى أنك محل له وقد وجد بالقدرة الأزلية فيك فوصفك بأنك شاكر إثبات شيئية لك وأنت شيء إذ جعلك خالق الأشياء شيئاً وإنما أنت لا شيء إذا كنت أنت ظالماً لنفسك شيئاً من ذاتك فأما باعتبار النظر إلى الذي جعل الأشياء شيئاً فأنت شيء إذ جعلك شيئاً فإن قطع النظر عن جعله كنت لا شيء تحقيقياً وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم حيث قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " ولما قيل له: يا رسول الله ففيم العمل إذا كانت الأشياء قد فرغ منها من قبل فتبين أن الخلق مجاري قدرة الله تعالى ومحل أفعاله وإن كانوا هم أيضاً من أفعاله ولكن بعض أفعاله محل للبعض وقوله: " اعملوا " وإن كان جارياً على لسان الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو فعل من أفعاله وهو سبب لعلم الخلق أن العمل نافع وعلمهم فعل من أفعال الله تعالى والعلم سبب لانبعاث داعية جازمة إلى الحركة والطاعة وانبعاث الداعية أيضاً من أفعال الله تعالى وهو سبب لحركة الأعضاء وهي أيضاً من أفعال الله تعالى ولكن بعض أفعاله سبب للبعض أي الأول شرط للثاني كما كان خلق الجسم سبباً لخلق العرض إذ لا يخلق العرض قبله وخلق الحياة شرط لخلق العلم وخلق العلم شرط لخلق الإرادة والكل من أفعال الله تعالى وبعضها سبب للبعض أي هو شرط ومعنى كونه شرطاً أنه لا يستعد لقبول فعل الحياة إلا جوهر ولا يستعد لقبول العلم إلا ذو حياة ولا لقبول الإرادة إلا ذو علم فيكون بعض أفعاله سبباً للبعض بهذا المعنى لا بمعنى أن بعض أفعاله موجد لغيره بل ممهد شرط الحصول لغيره وهذا إذا حقق ارتقى إلى درجة التوحيد الذي ذكرناه. فإن قلت: فلم قال الله تعالى اعملوا وإلا فأنتم معاقبون مذمومون على العصيان وما إلينا شيء فكيف نذم وإنما الكل إلى الله تعالى فاعلم أن هذا القول من الله تعالى سبب لحصول اعتقاد فينا والاعتقاد سبب لهيجان الخوف وهيجان الخوف سبب لترك الشهوات والتجافي عن دار الغرور وذلك سبب للوصول إلى جوار الله والله تعالى مسبب الأسباب ومرتبها فمن سبق له في الأزل السعادة يسر له هذه الأسباب حتى يقوده بسلسلتها إلى الجنة ويعبر عن مثله بأن كلاً ميسر لما خلق له ومن لم يسبق له من الله الحسنى بعد عن سماع كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام العلماء فإذا لم يسمع لم يعلم وإذا لم يعلم لم يخف وإذا لم يخف لم يترك الركون إلى الدنيا وإذا لم يترك الركون إلى الدنيا بقي في حزب الشيطان وإن جهنم لموعدهم أجمعين فإذا عرفت هذا تعجبت من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل فما من أحد إلا وهو مقود إلى الجنة سلاسل الأسباب وهو تسليط العلم والخوف عليه. وما من مخذول إلا وهو مقو إلى النار بالسلاسل وهو تسليط الغفلة والأمن والغرور عليه فالمتقون يساقون إلى الجنة قهراً والمجرمون يساقون إلى النار قهراً ولا قاهر إلا الله الواحد القهار ولا قادر إلا الملك الجبار وإذا انكشف الغطاء عن أعين الغافلين فشاهدوا الأمر كذلك سمعوا عند ذلك نداء المنادي " لمن الملك اليوم الواحد القهار " ولقد كان الملك لله الواحد القهار كل يوم لا ذلك اليوم على الخصوص ولكن الغافلين لا يسمعون هذا النداء إلا ذلك اليوم فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف الأحوال حيث لا ينفعهم الكشف فنعوذ بالله الحليم الكريم من الجهل والعمى فإنه أصل أسباب الهلاك. اعلم أن فعل الشكر وترك الكفر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله تعالى عما يكرهه إذ معنى الشكر استعمال نعمه تعالى في محابه ومعنى الكفر نقيض ذلك إما بترك الاستعمال أو باستعمالها في مكارهه. ولتمييز ما يحبه الله تعالى مما يكرهه مدركان أحدهما السمع ومستنده الآيات والأخبار والثاني بصيرة القلب. وهو النظر بعين الاعتبار وهذا الأخير عسير وهو لأجل ذلك عزيز فلذلك أرسل الله تعالى الرسل وسهل بهم الطريق على الخلق ومعرفة ذلك تنبني على معرفة جميع أحكام الشرع في أفعال العباد فمن لا يطلع على أحكام الشرع في جميع أفعاله لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلاً وأما الثاني وهو النظر بعين الاعتبار فهو إدراك حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه إذ ما خلق شيئاً في العالم إلا وفيه حكمة وتحت الحكمة مقصود وذلك المقصود هو المحبوب وتلك الحكمة منقسمة إلى جلية وخفية. أما الجلية فكالعلم بأن الحكمة في خلق الشمس أن يحصل بها الفرق بين الليل والنهار فيكون النهار معاشاً والليل لباساً فتتيسر الحركة عند الإبصار والسكون عند الاستتار فهذا من جملة حكم الشمس لا كل الحكم فيها بل فيها حكم أخرى كثيرة دقيقة وكذلك معرفة الحكمة في الغيم ونزول الأمطار وذلك لانشقاق الأرض بأنواع النبات مطعماً للخلق ومرعى للأنعام وقد انطوى القرآن على جملة من الحكم الجلية التي تحتملها أفهام الخلق دون الدقيق الذي يقصرون عن فهمه إذ قال تعالى " أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً " الآية. وأما الحكمة في سائر الكواكب السيارة منها والثوابت فخفية لا يطلع عليها كافة الخلق والقدر الذي يحتمله فهم الخلق أنها زينة للسماء لتستلذ العين بالنظر إليها وأشار إليه قوله تعالى: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " فجميع أجزاء العالم سماؤه وكواكبه ورياحه وبحاره وجباله ومعادنه ونباته وحيواناته وأعضاء حيواناته لا تخلو ذرة من ذراته عن حكم كثيرة من حكمه واحدة إلى عشرة إلى ألف إلى عشرة آلاف وكذا أعضاء الحيوان تنقسم إلا ما يعرف حكمتها كالعلم بأن العين للإبصار لا للبطش واليد للبطش لا للمشي والرجل للمشي لا للشم فأما الأعضاء الباطنة من الأمعاء والمرارة والكبد والكلية وآحاد العروق والأعصاب والعضلات وما فيها من التجاويف والالتفاف والاشتباك والانحراف والدقة والغلظ وسائر الصفات فلا يعرف الحكمة فيها سائر الناس والذين يعرفونها لا يعرفون منها إلا قدراً يسيراً بالإضافة إلى ما في علم الله تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " فإذن كل من استعمل شيئاً في جهة غير الجهة التي خلق لها ولا على الوجه الذي أريد به فقد كفر فيه نعمة الله تعالى فمن ضرب غيره بيده فقد كفر نعمة اليد إذ خلقت له اليد ليدفع بها عن نفسه ما يهلكه ويأخذ ما ينفعه لا ليهلك بها غيره ومن نظر إلى وجه غير المحرم فقد كفر نعمة العين ونعمة الشمس إذ الإبصار يتم بهما وإنما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه ويتقي بهما ما يضره فيهما فقد استعملها في غير ما أريدتا به وهذا لأن المراد من خلق الخلق وخلق الدنيا وأسبابها أن يستعين الخلق بهما على الوصول إلى الله تعالى ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا والتجافي عن غرور الدنيا ولا أنس إلا بدوام الذكر ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن ولا يبقى البدن إلا بالغذاء ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق سائر الأعضاء ظاهراً وباطناً فكل ذلك لأجل البدن والبدن مطية النفس والراجح إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة فلذلك قال تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق " الآية فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها لإقدامه على تلك المعصية ولنذكر مثالاً واحداً للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء حتى تعتبر بها وتعلم طريقة الشكر والكفران على النعم فنقول: من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه كمن يملك الزعفران مثلاً وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبدل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري داراً بثياب أو عبداً بخف أو دقيقاً بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدرى أن الجمل كم يسوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جداً فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم بينهما بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب على بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال: هذا الجمل يسوي مائة دينار وهذا القدر من الزعفران يسوي مائة فهما من حيث إنهما مساويان بشيء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى وهي التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك شيء لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلاً فاحتيج إلى شيء وهو في صورته كأنه ليس بشيء وهو معناه كأنه كل الأشياء والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحرف لا معنى له نفسه وتظهر به المعاني في غيره فهذه هي الحكمة الثانية وفيهما أيضاً حكم يطول ذكرها فكل من عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه. لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمر خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران وإنما خلقا لتتداولها الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة المقادير مقومة للمراتب فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة في صفحات الموجودات بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت الذي لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة - أخبر هؤلاء العاجزين بكلام سمعوه من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت المعنى الذي عجزوا عن إدراكه فقال تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالاً ممن كنز لأن مثال هذا مثال من استخسر حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس والحبس أهون منه وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات عن أن تتبدد وإنما الأواني لحفظ المائعات ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود فمن لم ينكشف له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية وقيل له: " من شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنة نار جهنم " وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصوداً على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاماً ودابة إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض في أعيانهما وموقعهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النحويون: إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره وكموقع المرآة من الألوان فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيداً عنده وينزل منزلة المكنوز وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم كما أن حبسه ظلم فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصوداً للادخار وهو ظلم. فإن قلت فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر ولما جاز بيع الدرهم بمثله فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلاً قليلاً ففي المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به وهو تيسر التوصل به إلى غيره: وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث يجري مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه ونحن لا نخاف على العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود من الآخر وذلك أيضاً لا يتصور جريانه إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الرديء فلا ينتظم العقد وإن طلب زيادة في الرديء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه ونحكم بأن جيدها ورديئها سواء لأن الجودة والرداءة ينبغي أن ينظر إليهما فيما يقصد في عينه وما لا غرض في عينه فلا ينبغي أن ينظر إلا مضافات دقيقة في صفاته وإنما الذي ظلم هو الذي ضرب النقود مختلفة في الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة في أعيانها وحقها أن لا تقصد. وأما إذا باع درهماً بدرهم مثله نسيئة فإنما لم يجز ذلك لأنه لا يقدم على هذا إلا مسامح قاصد الإحسان في القرض وهو مكرمة مندوحة عنه لتبقى صورة المسامحة فيكون له حمد وأجر والمعاوضة لا حمد فيها ولا أجر فهو أيضاً ظلم لأنه إضاعة خصوص المساحة وإخراجها في معرض المعارضة وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى بها فلا ينبغي أن تصرف على جهتها فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تقييدها في الأيدي ويؤخر عنها الأكل الذي أريدت له فما خلق الله الطعام إلا ليؤكل والحاجة إلى الأطعمة شديدة فينبغي أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج ولا يعامل على الأطعمة إلا مستغنٍ عنها إذ من معه طعام فلم لا يأكله إن كان محتاجاً ولم يجعله بضاعة تجارة وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام يكون محتاجاً إليه فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضاً مستغنٍ عنه ولهذا ورد في الشرع لعن المحتكر وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه في كتاب آداب الكسب نعم بائع البر بالتمر معذور إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر في الغرض وبائع صاع من البر بصاع منه غير معذور ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند تفاوت في الجودة ومقابلة الجيد بمثله من الرديء لا يرضى بها صاحب الجيد وأما جيد برديئين فقد يقصد ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات والجيد يساوي الرديء في أصل الفائدة ويخالفه في وجوه التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام فهذه حكمة الشرع في تحريم الربا وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن فن الفقه فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أوي من جميع ما أوردناه في الخلافيات وبهذا يتضح رجحان مذهب الشافعي رحمه الله في التخصص بالأطعمة دون المكيلات إذ لو دخل الجص فيه لكانت الثياب والدواب أولى بالنخول ولولا الملح لكان مذهب مالك رحمه الله أقوم المذاهب فيه إذ خصصه بالأوقات ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلا بد أن يضبط بحد وتحديد هذا كان ممكناً بالقوت وكان ممكناً بالمطعوم فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أخرى لكل ما هو ضرورة البقاء وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق في أتباع جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص فعين المعنى بكمال قوته يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيكون الحد ضرورياً فلذلك قال الله تعالى: " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " ولأن أصول هذه المعاني لا تختلف فيها الشرائع وإنما تختلف في وجوه التحديد كما يحد شرع عيسى بن مريم عليه السلام تحريم الخمر بالسكر وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر لأن قليله يدعو إلى كثير والداخل في الحدود داخل في التحريم بحكم الجنس كما دخل أصل المعنى بالجملة الأصلية فهذا مثال واحد لحكمة خفية من حكم النقدين فينبغي أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال فكل ما خلق لحكمة فينبغي أن يصرف عنها ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " ولكن لا تصادف جواهر الحكم في قلوب هي مزابل الشهوات وملاعب الشياطين بل لا يتذكر إلا أولوا الألباب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء " وإذ عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك وكل فعل صادر منك فإنه إما شكر وإما كفر إذ لا يتصور أن ينفك عنهما وبعض ذلك نصفه في لسان الفقه الذي تناطق به عوام الناس بالكراهة وبعضه بالخطر وكل ذلك عند أرباب القلوب موصوف بالخطر فأقول مثلاً: لو استنجيت باليمنى فقد كفرت نعمة اليدين إذ خلق الله لك اليدين وجعل إحداهما أقوى من الأخرى فاستحق الأقوى بمزيد رجحانه في الغالب التشريف والتفضيل وتفضيل الناقص عدول عن العدل والله لا يأمر بالعدل ثم أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال: بعضها شريف كأخذ المصحف وبعضها خسيس كإزالة النجاسة فإذا أخذت المصحف باليسار وأزلت النجاسة باليمين فقد خصصت الشريف بما هو خسيس فغضضت من حقه وظلمته وعدلت عن العدل وكذلك إذا بصقت مثلاً في جهة القبلة أو استقبلتها في قضاء الحاجة فقد كفرت نعمة الله في خلق الجهات وخلق سعة العالم لأنه خلق الجهات لتكون متسعك في حركتك وقسم الجهات إلى ما لم يشرفها وإلى ما شرفها بأن وضع فيها بيتاً أضافه إلى نفسه استمالةً لقلبك إليه ليتقيد به قلبك فيتقيد بسببه في تلك الجهة على هيئة الثبات والوقار إذا عبدت ربك وكذلك انقسمت أفعالك إلى ما هي شريفة كالطاعات وإلى ما هي خسيسة كقضاء الحاجة ورمي البصاق فإذا رميت بصاقك إلى جهة القبلة فقد ظلمتها وكفرت نعمة الله تعالى عليك بوضع القبلة التي بوضعها كمال عبادتك وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت لأن الخف وقاية للرجل فللرجل فيه حظ والبداءة في الحظوظ ينبغي أن تكون بالأشرف فهو العدل والوفاء بالحكمة ونقيضه ظلم وكفران لنعمة الخف والرجل وهذا عند العارفين كبيرة وإن سماه الفقيه مكروهاً حتى إن بعضهم كان قد جمع إكراراً من الحنطة وكان يتصدق بها فسئل عن سببه فقال: لبست المداس مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهواً فأريد أن أكفره بالصدقة نعم الفقيه لا يقدر على تفخيم الأمر في هذه الأمور لأنه مسكين بل بإصلاح العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الإنعام وهم مغموسون في ظلمات أطم وأعظم من أن تظهر أمثال هذه الظلمات بالإضافة إليها فقبيح أن يقال: الذي شرب الخمر وأخذ القدح بيساره قد تعدى من وجهين: أحدهما الشرب والآخر الآخذ باليسار ومن باع خمراً في وقت النداء يوم الجمعة فقبيح أن يقال خان من وجهين أحدهما بيع الخمر والآخر في وقت النداء ومن قضى حاجته في محراب المسجد مستدبر القبلة فقبيح أن يذكر تركه الأدب في قضاء الحاجة من حيث إنه لم يجعل القبلة عن يمينه فالمعاصي كلها ظلمات بعضها فوق بعض فيمنحق بعضها في جنب البعض فالسيد قد يعاقب عبده إذا استعمل سكينه بغير إذنه ولكن لو قتل بتلك السكين أعز أولاده لم يبق لاستعمال بغير إذنه حكم ونكاية في نفسه فكل ما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب وتسامحنا فيه في الفقه مع العوام فسببه هذه الضرورة وإلا فكل هذه المكاره عدول عن العدل وكفران للنعمة ونقصان عن الدرجة المبلغة للعبد إلى درجات القرب بعضها يؤثر في العبد بنقصان القرب وانحطاط المنزلة يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد الذي هو مستقر الشياطين وكذلك من كسر غصناً من شجرة من غير حاجة ناجزة مهمة ومن غير حاجة غرض صحيح فقد كفر نعمة الله تعالى في خلق الأشجار وخلق اليد أما اليد فإنها لم تخلق للعبث بل الطاعة والأعمال المعينة على الطاعة. وأما الشجر فإنه خلقه الله تعالى وخلق له العروق وساق إليه الماء وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده فكسره قبل نشوة لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود الحكمة وعدول عن العدل فإن كان له غرض صحيح فله ذلك إذ الشجر والحيوان جعلا فداءً لأغراض الإنسان فإنهما جميعاً فانيان هالكان فإفناء الأخس في بقاء الأشرف مدة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما جميعاً وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاًمنه " نعم إذا كسر ذلك من ملك غيره فهو ظالم أيضاً وإن كان محتاجاً لأن كل شجرة بعينها لا تفي بحاجات عباد الله كلهم بل تفي بحاجة واحدة ولو خصص واحد بها من غير رجحان واختصاص كان ظلماً فصاحب الاختصاص هو الذي حصل البذر ووضعه في الأرض وساق إليه الماء وقام بالتعهد فهو أولى به غيره فيرجع جانبه بذلك فإن نبت ذلك في موات الأرض لا بسعي آدمي اختص بمغرسه أو بغرسه فلا بد من طلب اختصاص آخر وهو السبق إلى فللسابق خاصية السبق فالعدل هو أن يكون أولى به وعبر الفقراء عن هذا الترجيح بالملك وهو مجاز محض إذ لا ملك إلا لملك الملوك الذي له ما في السموات والأرض وكيف يكون العبد مالكاً وهو في نفسه ليس يملك نفسه بل هو ملك غيره نعم الخلق عباد الله والأرض مائدة الله وقد أذن لهم في الأكل من مائدته بقدر حاجتهم كالملك ينصب مائدة لعبيده فمن أخذ لقمة بيمينه واحتوت عليها براجمه فجاء عبد آخر وأراد انتزاعها من يده لم يمكن منه لا لأن اللقمة صارت ملكاً له بالأخذ باليد - فإن اليد وصاحب اليد أيضاً مملوك - ولكن إذا كانت كل لقمة بعينها لا تفي بحاجة كل العبيد فالعدل في التخصيص عند حصول ضرب من الترجيح والاختصاص والأخذ اختصاص ينفرد به العبد فمنع من لا يدلي بذلك الاختصاص عن مزاحمته فهكذا ينبغي أن تفهم أمر الله في عباده ولذلك نقول: من أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه وفي عباد الله من يحتاج إليه فهو ظالم وهو من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله وإنما سبيل الله طاعته وزاد الخلق في طاعته أموال الدنيا إذ بها تندفع ضروراتهم وترتفع حاجاتهم نعم لا يدخل هذا في حد فتاوى الفقه لأن مقادير الحاجات خفية والنفوس في استشعار الفقر في الاستقبال مختلفة وأواخر الأعمار غير معلومة فتكليف العوام ذلك يجري مجرى تكليف الصبيان الوقار والتؤدة والسكوت عن كلام غير مهم وهو بحكم نقصانهم لا يطيقونه فتركنا الاعتراض عليهم في اللعب واللهو وإباحتنا ذلك إياهم لا يدل على أن اللهو واللعب حق فكذلك إباحتنا للعوام حفظ الأموال والاقتصار في الإنفاق على قدر الزكاة لضرورة ما جبلوا عليه من البخل لا يدل على أنه غاية الحق وقد أشار القرآن إليه إذ قال تعالى: " إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا " بل الحق الذي لا كدورة فيه والعدل الذي لا ظلم فيه أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد الراكب فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان فمن أخذ زيادة عليه ثم منعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدو وخارج عن مقصود الحكمة وكافر نعمة الله تعالى عليه بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب التي بها عرف أن ما سوى زاد الراكب وبال عليه في الدنيا والآخرة فمن فهم حكم الله تعالى في جميع أنواع الموجودات قدر على القيام بوظيفة الشكر واستقصاء ذلك يحتاج إلى مجلدات ثم لا تفي إلا بالقليل وإنما أوردنا هذا القدر ليعلم علة الصدق في قوله تعالى: " وقليل من عبادي الشكور " وفرح إبليس لعنه الله بقوله: " ولا تجد أكثرهم شاكرين " فلا يعرف معنى هذه الآية من لم يعرف هذا كله وأموراً أخر وراء ذلك تنقضي الأعمار دون استقصاء مباديها فأما تفسير الآية ومعنى لفظها فيعرفه كل من يعرف اللغة وبهذا يتبين لك الفرق بين المعنى والتفسير. فإن قلت: فقد رجع حاصل هذا الكلام إلى أن الله تعالى في كل شيء وأنه جعل بعض أفعال العباد سبباً لتمام الحكمة وبلوغها غاية المراد منها وجعل بعض أفعالها مانعاً من تمام الحكمة فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلى غايتها فهو شاكر وكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تنساق إلى الغاية المرادة بها فهو كفران وهذا كله مفهوم ولكن الإشكال باق: وهو أن فعل العبد المنقسم إلى ما يتمم الحكمة وإلى ما يرفعها هو أيضاً من فعل الله تعالى فأين العبد في البين حتى يكون شاكراً مرة وكافراً أخرى فاعلم أن تمام التحقيق في هذا يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات وقد رمزنا إلى تلويحات بمباديها ونحن الآن نعبر بعبارة وجيزة عن آخرها وغايتها يفهمها من عرف منطق الطير ويجحدها من عجز عن الإيضاع في السير فضلاً عن أن يجول في جو الملكوت جولان الطير فنقول: إن الله عز وجل في جلاله وكبريائه صفة عنها يصدر الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادئ إشراقها فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس لا لغموض في نور الشمس ولكن لضعف في أبصار الخفافيش فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادي حقائقها شيئاً ضعيفاً جداً فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا لله تعالى صفة هي القدرة عنها يصدر الخلق والاختراع ثم الخلق ينقسم في الوجود إلى أقسام وخصوص صفات ومصدر انقسام هذه الأقسام واختصاصها بخصوص صفاتها صفة أخرى استعير لها بمثل الضرورة التي سبقت عبارة المشيئة فهي توهم منها أمراً محملاً عند المتناطقين باللغات التي هي حروف وأصوات متفاهمين بها وقصور لفظ المشيئة عن الدلالة على كنه تلك الصفة وحقيقتها كقصور لفظ القدر ثم انقسمت الفعال الصادرة من القدرة إلى ما ينساق إلى المنتهى الذي هو غاية حكمتها وإلى ما يقف دون الغاية وكان لكل واحد نسبة إلى صفة المشيئة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها تتم القسمة والاختلافات فاستعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبة واستعير لنسبة الواقف دون غايته عبارة الكراهة وقيل: إنهما جميعاً داخلان في وصف المشيئة ولكن لكل واحد خاصية أخرى في النسبة يوهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمراً مجملاً عند طالبي الفهم من الألفاظ واللغات ثم انقسم عباده الذين هم أيضاً من خلقه واختراعه إلى من سبقت له المشيئة الأزلية أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها ويكون ذلك قهراً في حقهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته إلى غايتها في بعض الأمور فكان لكل واحد من الفريقين نسبة إلى المشيئة خاصة فاستعير لنسبة المستعملين في إتمام الحكمة بهم عبارة الرضا واستعير للذين استوقف بهم أسباب الحكمة دون غايتها عبارة الغضب فظهر على من غضب عليه في الأزل فعل وقفت الحكمة به دون غايتها فاستعير له الكفران وأردف ذلك بنقمة اللعن والمذمة زيادة في النكال وظهر على من ارتضاه في الأزل فعل انساقت بسببه الحكمة إلى غايتها فاستعير له عبارة الشكر وأردف بخلعة الثناء والإطراء زيادة في الرضا والقبول والإقبال فكان الحاصل أنه تعالى أعطى الجمال ثم أثنى وأعطى النكال ثم قبح وأردى وكان مثاله أن ينظف الملك عبده الوسخ عن أوساخه ثم يلبسه من محاسن ثيابه فإذا تمم زينته قال يا جميل ما أجملك وأجمل ثيابك وأنظف وجهك فيكون بالحقيقة هو المجمل وهو المثني على الجمال فهو المثني عليه بكل حال وكأنه لم يثني من حيث المعنى إلا على نفسه وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر والصورة فهكذا كانت الأمور في الأزل وهكذا تتسلسل الأسباب والمسببات بتقدير رب الأرباب ومسبب الأسباب ولم يكن ذلك على اتفاق وبحث بل عن إرادة وحكمة وحكم حق وأمر جزم استعير له لفظ القضاء وقيل إنه كلمح بالبصر أو هو أقرب لفاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء الجزم بما سبق به التقدير فاستعير لترتب آحاد المقدورات بعضها على بعض لفظ القدر فكان لفظ القضاء بإزاء الآمر الواحد الكلي ولفظ القدر بإزاء التفصيل المتمادي إلى غير نهاية. وقيل: إن شيئاً من ذل ليس خارجاً عن القضاء والقدر فخطر لبعض العباد أن القسمة لماذا اقتضت هذا التفصيل وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت والتفضيل وكان بعضهم لقصوره ولا يطيق ملاحظة كنه هذا الأمر والاحتواء على مجامعه فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع وقيل لهم اسكنوا فما لهذا خلقتم " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " وامتلأت مشكاة بعضهم نوراً مقتبساً من نور الله تعالى في السموات والأرض وكان زيتهم أولاً صافياً يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار فمسته نار فاشتعل نوراً على نور فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربها فأدركوا الأمور كلها كما هي عليه فقيل لهم: تأدبوا بآداب الله تعالى واسكنوا وإذا ذكر القدر فأمسكوافإن للحيطان آذاناً وحواليكم ضعفاء الأبصار فسيروا بسير أضعفكم ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش فيكون ذلك بسبب هلاكهم فتخلقوا بأخلاق الله تعالى وانزلوا إلى سماء الدنيا من منتهى علوكم ليأنس بكم الضعفاء ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرقة من وراء حجابكم كما يقتبس الخفافيش من بقايا نور الشمس والكواكب في جنح الليل فيحيا به حياة يحتملها شخصه وحاله وإن كان لا يحيا به حياة المترددين في كمال نور الشمس وكونوا كمن قيل فيهم: وشربنا شراباً طيباً عند طيب كذاك شراب الطيبين يطيب شربنا وأهرقنا على الأرض فضله وللأرض من كأس الكرام نصيب فهكذا كان أول هذا الأمر وآخره ولا تفهمه إلا إذا كنت أهلاً له وإذا كنت أهلاً له فتحت العين وأبصرت فلا تحتاج إلى قائد يقودك والأعمى يمكن أن يقاد ولكن إلى حدٍ ما فإذا ضاق الطريق وصار أحد من السيف وأدق من الشعر قدر الطائر على أن يطير عليه ولم يقدر على أن يستجر وراءه أعمى وإذا دق المجال ولطف لطف الماء مثلاً ولم يكن العبور إلا بالسباحة فقد يقدر الماهر بصنعة السباحة أن يعبر بنفسه وربما لم يقدر على أن يستجر وراءه آخر فهذه أمور نسبة السير عليها إلى السير على ما هو مجال جماهير الخلق كنسبة المشي على الماء إلى المشي على الأرض والسباحة يمكن أن تتعلم فأما المشي على الماء فلا يكتسب بالتعليم بل بقوة اليقين ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عيسى عليه السلام يقال أنه مشى على الماء! فقال صلى الله عليه وسلم: " لو ازداد يقيناً لمشى على الهواء " فهذه رموز وإشارات إلى معنى الكراهة والمحبة والرضا والغضب والشكر والكفران لا يليق بعلم المعاملة أكثر منها وقد ضرب الله تعالى مثلاً لذلك تقريباً إلى أفهام الخلق إذ عرف أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه فكانت عبادتهم غاية الحكمة في حقهم ثم أخبر أن له عبدين يحب أحدهما واسمه جبريل وروح القدس والأمين وهو عنده محبوب مطاع أمين مكين ويبغض الآخر واسمه إبليس وهو اللعين المنظر إلى يوم الدين ثم أحال الإرشاد إلى جبريل فقال تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وقال تعالى: " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " وأحال الإغواء على إبليس فقال تعالى: " ليضل عن سبيله " والإغواء هو استيقاف العباد دون بلوغ غاية الحكمة فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي غضب عليه والإرشاد سياقه لهم إلى الغاية فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي أحبه وعندك في العادة له مثال فالملك إذا كان محتاجاً إلى من يسقيه الشراب وإلى من يحجمه وينظف فناء منزله عن القاذورات وكان له عبدان فلا يعين للحجامة والتنظيف إلا أقبحهما وأخسهما ولا يفوض حمل الشراب والطيب إلا إلى أحسنهما وأكملهما وأحبهما إليه ولا ينبغي أن تقول هذا فعلي ولم يكون فعله دون فعلي فإنك أخطات إذ أضفت ذلك إلى نفسك بل هو الذي صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه والفعل المحبوب إتماماً للعدل فإن عدله تارة يتم بأمور لا مدخل لك فيها وتارة يتم فيك فإنك أيضاً من أفعاله فداعيتك وقدرتك وعلمك وعملك وسائر أسباب حركاتك في التعبير هو فعله الذي رتبه بالعدل ترتيباً تصدر منه الأفعال المعتدلة إلا أنك لا ترى إلا نفسك فتظن أن ما يظهر عليك في عالم الشهادة ليس له سبب من عالم الغيب والملكوت فلذلك تضيفه إلى نفسك وإنما أنت مثل الصبي الذي ينظر ليلاً إلى لعب المشعبذ الذي يخرج صوراً من وراء حجاب ترقص وتزعق وتقوم وتقعد وهي مؤلفة من خرق لا تتحرك بأنفسها وإنما تحركها خيوط شعرية دقيقة لا تظهر في ظلام الليل ورؤوسها في يد المشعبذ وهو محتجب عن أبصار الصبيان فيفرحون ويتعجبون لظنهم أن تلك الخرق ترقص وتلعب وتقوم وتقعد. وأما العقلاء فإنهم يعلمون أن ذلك تحريك وليس بتحرك ولكنهم ربما لا يعلمون كيف تفصيله والذي يعلم بعض تفصيله لا يعلمه كما يعلمه المشعبذ الذي الأمر إليه والجاذبة بيده فكذلك صبيان أهل الدنيا والخلق كلهم صبيان بالنسبة إلى العلماء ينظرون إلى هذه الأشخاص فيظنون أنها متحركة فيحيلون عليها والعلماء يعلمون أنهم محركون إلا أنهم لا يعرفون كيفية التحريك وهم الأكثرون إلا العارفون والعلماء الراسخون فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطاً دقيقة عنكبوتية بل أدق منها بكثير معلقة من السماء متشبثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض لا تدرك تلك الخيوط لدقتها بهذه الأبصار الظاهرة ثم شاهدوا رؤوس تلك الخيوط في مناطات لها هي معلقة بها وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هي في أيدي الملائكة المحركين للسموات وشاهدوا أيضاً ملائكة السموات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية كي لا يعصوا الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وعبر عن هذه المشاهدات في القرآن وقيل: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " وعبر عن انتظار ملائكة السموات لما ينزل إليهم من القدر والأمر فقيل: " خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيءٍ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علماً " وهذه أمور لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم. وعبر ابن عباس رضي الله عنهما عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق حيث قرأ قوله تعالى " يتنزل الأمر بينهن " فقال: لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتموني وفي لفظ آخر: لقلتم إنه كافر. ولنقتصر على هذا القدر فقد خرج عنان الكلام عن قبضة الاختيار وامتزج بعلم المعاملة ما ليس منه فلنرجع إلى مقاصد الشكر فنقول
إذا رجع حقيقة الشكر إلى كون العبد مستعملاً في إتمام حكمة الله تعالى فأشكر العباد أحبهم إلى الله وأقربهم إليه وأقربهم إلى الله الملائكة ولهم أيضاً ترتيب وما منهم إلا وله مقام معلوم وأعلاهم في رتبة القرب ملك اسمه إسرافيل عليه السلام وإنما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم كرام بررة وقد أصلح الله تعالى بهم الأنبياء عليهم السلام وهم أشرف مخلوق على وجه الأرض ويلي درجتهم درجة الأنبياء فإنهم في أنفسهم أخيار وقد هدى الله بهم سائر الخلق وتمم بهم حكمته وأعلاهم رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم إذ أكمل الله به الدين وختم به النبيين ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فإنهم في أنفسهم صالحون وقد أصلح الله بهم سائر الخلق ودرجة كل واحد منهم بقدر ما أصلح من نفسه ومن غيره ثم يليهم السلاطين بالعدل لأنهم أصلحوا دنيا الخلق كما أصلح العلماء دينهم ولأجل اجتماع الدين والملك والسلطنة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان أفضل من سائر الأنبياء فإنه أكمل الله به صلاح دينهم ودنياهم ولم يكن السيف والملك لغيره من الأنبياء ثم يلي العلماء والسلاطين الصالحون الذين أصلحوا دينهم ونفوسهم فقط فلم تتم حكمة الله بهم بل فيهم ومن عدا هؤلاء فهمج رعاع. واعلم أن السلطان به قوام الدين فلا ينبغي أن يستحقر وإن كان ظالماً فاسقاً. قال عمرو بن العاص رحمه الله: إمام غشوم خير من فتنة تدوم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون ويفسدون وما يصلح الله بهم أكثر فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر ". وقال سهل: من أنكر إمامة السلطان فهو زنديق ومن دعاه السلطان فلم يجب فهو مبتدع ومن أتاه من غير دعوة فهو جاهل. وسئل: أي الناس خير فقال: السلطان فقيل: كنا نرى أن شر الناس السلطان! فقال: مهلاً إن الله تعالى له كل يوم نظرتين: نظرة إلى سلامة أموال المسلمين ونظرة إلى سلامة أبدانهم فيطلع في صحيفته فيغفر له جميع ذنبه وكان يقول: الخشبات السود المعلقة على أبوابهم خير من سبعين قاصاً يقصون. الركن الثاني من أركان الشكر ما عليه الشكر وهو النعمة فلنذكر فيه حقيقة النعمة وأقسامها ودرجاتها وأصنافها ومجامعها فيما يخص ويعم فإن إحصاء نعم الله على عباده خارج عن مقدور البشر كما قال تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فنقدم أموراً كلية تجري مجرى القوانين في معرفة النعم ثم نشتغل بذكر الآحاد والله الموفق للصواب. اعلم أن كل خير ولذة وسعادة بل كل مطلوب ومؤثر فإنه يسمى نعمة ولكن النعمة بالحقيقة هي السعادة الأخروية وتسمية ما سواها نعمة وسعادة إما غلط وإما مجاز كتسمية السعادة الدنيوية التي لا تعين على الآخرة نعمة فإن ذلك غلط محض وقد يكون اسم النعمة للشيء صدقاً ولكن يكون إطلاقه على السعادة الأخروية أصدق فكل سبب يوصل إلى سعادة الآخرة ويعين عليها إما بواسطة واحدة أو بوسائط فإن تسميته نعمة صحيحة وصدق لأجل أنه يفضي إلى النعمة الحقيقية. والأسباب المعينة واللذات المسماة نعمة نشرحها بتقسيمات: القسمة الأولى: أن الأمور كلها بالإضافة إلينا تنقسم إلى ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً كالعلم وحسن الخلق وإلى ما هو ضار فيهما جميعاً كالجهل وسوء الخلق وإلى ما ينفع في الحال ويضر في المآل كالتلذذ باتباع الشهوة وإلى ما يضر في الحال ويؤلم ولكن ينفع في المآل كقمع الشهوات ومخالفة النفس فالنافع في الحال والمآل هو النعمة تحقيقاً كالعلم وحسن الخلق والضار فيهما هو البلاء تحقيقاً وهو ضدهما والنافع في الحال المضر في المآل بلاء محض عند ذوي البصائر وتظنه الجهال نعمة ومثاله الجائع إذا وجد عسلاً فيه سم فإنه يعده نعمة إن كان جاهلاً وإذا علمه علم أن ذلك بلاء سيق إليه. والضار في الحال النافع في المآل نعمة عند ذوي الألباب بلاء عند الجهال ومثاله الدواء البشع في الحال مذاقه إلا أنه شاف من الأمراض والأسقام وجالب للصحة والسلامة فالصبي الجاهل إذا كلف شربه ظنه بلاء والعاقل يعده نعمة ويتقلد المنة ممن يهديه إليه ويقربه منه ويهيئ له أسبابه فلذلك تمنع الأم ولدها من الحجامة والأب يدعوه إليها فإن الأب لكمال عقله يلمح العاقبة والأم لفرط حبها وقصورها تلحظ الحال والصبي لجهله يتقلد منة من أمه دون أبيه ويأنس إليها وإلى شفقتها ويقدر الأب عدواً له ولو عقل لعلم أن الأم عدواً باطناً في صورة صديق لأن منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض وآلام أشد من الحجامة ولكن الصديق الجاهل شر من العدو العاقل وكل إنسان فإنه صديق نفسه ولكنه صديق جاهل فلذلك تعمل به ما لا يعمل به العدو. قسمة ثانية: اعلم أن الأسباب الدنيوية مختلطة قد امتزج خيرها بشرها فقلما يصفو خيرها كالمال والأهل والولد والأقارب والجاه وسائر الأسباب ولكن تنقسم إلى ما نفعه أكثر من ضره كقدر الكفاية من المال والجاه وسائر الأسباب وإلى ما ضره أكثر من نفعه في حق أكثر الأشخاص كالمال الكثير والجاه الواسع وإلى ما يكافئ ضرور نفعه وهذه أمور تختلف بالأشخاص فرب إنسان صالح ينتفع بالمال الصالح وإن كثر فينفقه في سبيل الله ويصرفه إلى الخيرات فهو مع هذه التوفيق نعمة في حقه ورب إنسان يستضر بالقليل أيضاً إذ لا يزال مستصغراً له شاكياً من ربه طالباً للزيادة عليه فيكون ذلك مع هذا الخذلان بلاء في حقه. قسمة ثالثة: اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى ما هو مؤثر لذاته لا لغيره وإلى مؤثر لغيره وإلى مؤثر لذاته ولغيره: فالأول ما يؤثر لذاته لا لغيره: كلذة النظر إلى وجه الله تعالى وسعادة لقائه وبالجملة سعادة الآخرة التي لا انقضاء لها فإنها لا تطلب ليتوصل بها إلى غاية أخرى مقصودة وراءها بل تطلب لذاتها. الثاني ما يقصد لغيره ولا غرض أصلاً في ذاته: كالدراهم والدنانير فإن الحاجة لو كانت لا تنقضي بها لكانت هي والحصباء بمثابة واحدة ولكن لما كانت وسيلة إلى اللذات سريعة الإيصال إليها صارت عند الجهال محبوبة في نفسها حتى يجمعوها ويكنزوها ويتصارفوا عليها بالربا ويظنون أنها مقصودة ومثال هؤلاء مثال من يحب شخصاً فيحب بسببه رسوله الذي يجمع بينه وبينه ثم ينسى في محبة الرسول محبة الأصل فيعرض عنه طول عمره ولا يزال مشغولاً بتعهد الرسول ومراعاته وتفقده وهو غاية الجهل والضلال. الثالث ما يقصد لذاته ولغيره: كالصحة والسلامة فإنها تقصد ليقدر بسببها على الذكر والفكر الموصلين إلى لقاء الله تعالى أو ليتوصل بها إلى استيفاء لذات الدنيا وتقصد أيضاً لذاتها فإن الإنسان وإن استغنى عن الشيء الذي تراد سلامة الرجل لأجله فيريد أيضاً سلامة الرجل من حيث إنها سلامة فإذن المؤثر لذاته فقط هو الخير والنعمة تحقيقاً وما يؤثر لذاته ولغيره أيضاً فهو نعمة ولكن دون الأول فأما ما لا يؤثر إلا لغيره كالنقدين فلا يوصفان أنفسهما من حيث إنهما جوهران بأنهما نعمة بل من حيث هما وسيلتان فيكونان نعمة في حق من يقصد أمر ليس يمكنه أن يتوصل إليه إلا بهما فلو كان مقصده العلم والعبادة ومعه الكفاية التي هي ضرورة حياته استوى عند الذهب والمدر فكان وجودهما وعدمهما عنده بمثابة واحدة بل ربما شغله وجودهما عن الفكر والعبادة فيكونان بلاء في حقه ولا يكونان نعمة. قسمة رابعة: اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى نافع ولذيذ وجميل فاللذيذ هو الذي تدرك راحته في الحال والنافع هو الذي يفيد في المآل والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال والشرور أيضاً تنقسم إلى ضار وقبيح ومؤلم وكل واحد من القسمين ضربان: مطلق ومقيد فالمطلق هو الذي اجتمع فيه الأوصاف الثلاثة أما في الخير فكالعلم والحكمة فإنها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة وأما في الشر فكالجهل فإنه ضار وقبيح ومؤلم وإنما يحس الجاهل بألم جهله إذا عرف أنه جاهل وذلك بأن يرى غيره عالماً ويرى نفسه جاهلاً فيدرك ألم النقص فتنبعث منه شهوة العلم اللذيذة ثم قد يمنع الحسد والكبر والشهوات البدنية عن التعلم فيتجاذبه متضادان فيعظم ألمه فإنه إن ترك التعلم تألم بالجهل ودرك النقصان وإن اشتغل بالتعلم تألم بترك الشهوات أو بترك الكبر وذل التعلم ومثل هذا الشخص لا يزال في عذاب دائم لا محالة. الضرب الثاني: المقيد وهو الذي جمع بعض هذه الأوصاف دون بعض فرب نافع مؤلم كقطع الإصبع المتآكلة والسلعة الخارجة من البدن ورب نافع قبيح كالحمق فإنه بالإضافة إلى بعض الأحوال نافع فقد قيل: استراح من لا عقل له فإنه لا يتهم بالعاقبة فيستريح في الحال إلى أن يحين وقت هلاكه ورب نافع من وجه ضار من وجه: كإلقاء المال في البحر عند خوف الغرق فإنه ضار للمال نافع للنفس في نجاتها. والنافع قسمان: ضروري كالإيمان وحسن الخلق في الإيصال إلى سعادة الآخرة وأعني بهما العلم والعمل إذ لا يقوم مقامهما البتة غيرها وإلى ما لا يكون ضرورياً كالسكنجين مثلاً في تسكين الصفراء فإنه قد يمكن تسكينها أيضاً بما يقوم مقامه. قسمة خامسة: اعلم أن النعمة يعبر بها عن كل لذيذ واللذات بالإضافة إلى الإنسان من حيث اختصاصه بها أو مشاركته لغيره ثلاثة أنواع: عقلية وبدنية مشتركة مع بعض الحيوانات وبدنية مشتركة مع جميع الحيوانات. أما العقلية فكلذة العلم والحكمة إذ ليس يستلذها السمع والبصر والشم والذوق ولا البطن ولا الفرج وإنما يستلذها القلب لاختصاصه بصفة يعبر عنها بالعقل وهذه أقل اللذات وجوداً وهي أشرفها أما قلتها فلأن العلم لا يستلذه إلا عالم والحكمة لا يستلذها إلا حكيم وما أقل أهل العلم والحكمة وما أكثر المتسمين باسمهم والمترسمين برسومهم. وأما شرفها فلأنها لازمة لا تزول أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة ودائمة لا تمل فالطعام يشبع منه فيمل وشهوة الوقاع يفرغ منها فتستثقل والعلم والحكمة قط لا يتصور أن تمل وتستثقل ومن قدر على الشريف الباقي أبد الآباد إذا رضي بالخسيس الفاني في أقرب الآماد فهو مصاب في عقله محروم لشقاوته وإدباره وأقل أمر فيه: أن العلم والعقل لا يحتاج إلى أعوان وحفظة بخلاف المال إذ العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص بالإنفاق والمال يسرق والولاية يعزل عنها والعلم لا تمتد إليه أيدي السراق بالأخذ ولا أيدي السلاطين بالعزل فيكون صاحبه في روح الأمن أبداً وصاحب المال والجاه في كرب الخوف أبداً ثم العلم نافع ولذيذ وجميل في كل حال أبداً والمال تارة يجذب إلى الهلاك وتارة يجذب إلى النجاة ولذلك ذم الله تعالى المال في القرآن في مواضع وإن سماه خيراً في مواضع. وأما قصور أكثر الخلق عن إدراك لذة العلم فإما لعدم الذوق فمن لم يعرف ولم يشتق إذ الشوق تبع الذوق وإما الفساد أمزجتهم ومرض قلوبهم بسبب إتباع الشهوات كالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مراً وإما لقصور فطنتهم إذ لم تخلق لهم بعد الصفة التي بها يستلذ العلم كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة العسل والطيور السمان ولا يستلذ إلا اللبن وذلك لا يدل على أنها ليست لذيذة ولا استطابه اللبن تدل على أنه ألذ الأشياء فالقاصرون عن درك لذة العلم والحكمة ثلاثة إما من لم يحي باطنه كالطفل وإما من مات بعد الحياة بإتباع الشهوات وإما من مرض بسبب إتباع الشهوات وقوله تعالى: " في قلوبهم مرض " إشارة إلى مرض العقول. وقوله عز وجل " لينذر من كان حياً " إشارة إلى من لم يحيى حياة باطنة وكل حي بالبدن ميت بالقلب فهو عند الله من الموتى وإن كان عند الجهال من الأحياء ولذلك كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وإن كانوا موتى بالأبدان. الثانية: لذة يشارك الإنسان فيها بعض الحيوانات كلذة الرياسة والغلبة والاستيلاء وذلك موجود في الأسد والنمر وبعض الحيوانات. الثالثة: ما يشارك فيها سائر الحيوانات كلذة البطن والفرج وهذه أكثرها وجوداً وهي أخسها ولذلك اشترك فيها كل ما دب ودرج حتى الديدان والحشرات ومن جاوز هذه الرتبة تشبثت به لذة الغلبة وهو أشدها التصاقاً بالمتغافلين فإن جاوز ذلك ارتقى إلى الثالثة فصار أغلب اللذات عليه لذة العلم والحكمة لا سيما لذة معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله وهذه رتبة الصديقين ولا ينال تمامها إلا بخروج استيلاء حب الرياسة من القلب وآخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة وأما شره البطن والفرج فكسره مما يقوى عليه الصالحون وشهوة الرياسة لا يقوى على كسرها إلا الصديقون فأما قمعها بالكلية - حتى لا يقع بها الإحساس على الدوام وفي اختلاف الأحوال فيشبه أن يكون خارجاً عن مقدور البشر. نعم تغلب لذة معرفة الله تعالى في أحوال لا يقع معها الإحساس بلذة الرياسة والغلبة ولكن ذلك لا يدوم طول العمر بل تعتريه الفترات فتعود إلى الصفات البشرية فتكون موجودة ولكن تكون مقهورة لا تقوى على حمل النفس على العدول عن العدل وعند هذا تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام: قلب لا يحب إلا الله تعالى ولا يستريح إلا بزيادة المعرفة والفكر به وقلب لا يدري ما لذة المعرفة وما معنى الأنس بالله بالجاه والرياسة والمال وسائر الشهوات البدنية وقلب أغلب أحواله الأنس بالله سبحانه والتلذذ بمعرفته والفكر فيه ولكن قد يعتريه في بعض الأحوال الرجوع إلى أوصاف البشرية وقلب أغلب أحواله التلذذ بالصفات البشرية ويعتريه في بعض الأحوال تلذذ بالعلم والمعرفة. أما الأول فإن كان ممكناً في الوجود فهو في غاية البعد. وأما الثاني فالدنيا طافحة به وأما الثالث والرابع فموجودان ولكن على غاية الندور ولا يتصور أن يكون ذلك نادراً شاذاً وهو مع الندور يتفاوت في القلة والكثرة وإنما تكون كثرته في الأعصار القريبة من أعصار الأنبياء عليهم السلام فلا يزال يزداد العهد طولاً وتزداد مثل هذه القلوب قلة إلى أن تقرب الساعة ويقضي الله أمراً كان مفعولا وإنما وجب أن يكون هذا نادراً لأنه مبادي ملك الآخرة والملك عزيز والملوك لا يكثرون فكما لا يكون الفائق في الملك والجمال إلا نادراً وأكثر الناس من دونهم فكذا في ملك الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة فإنها عبارة عن عالم الشهادة والآخرة عبارة عن عالم الغيب وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في المرآة والصورة في المرآة وإن كانت هي الثانية في رتبة الوجود فإنها أولى في حق رؤيتك فإنك لا ترى نفسك وترى صورتك في المرآة أولاً فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانياً على سبيل المحاكاة فالقلب التابع في الوجود متبوعاً في حق المعرفة والقلب المتأخر متقدماً وهذا نوع من الانعكاس ولكن الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العلم فكذلك عالم الملك والشهادة محاكٍ لعالم الغيب والملكوت فمن الناس من يسر له نظر الاعتبار فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت فيسمى عبوره عبرة وقد أمر الحق به فقال: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " ومنهم من عميت بصيرته فلم يعتبر فاحتبس في عالم الملك والشهادة وستنفتح إلى حبسه أبواب جهنم وهذا الحبس مملوء ناراً من شأنها أن تطلع على الأفئدة إلا أن بينه وبين إدراك المها حجاباً فإذا رفع ذلك الحجاب بالموت أدرك وعن هذا أظهر الله تعالى الحق على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا الجنة والنار مخلوقتان ولكن الجحيم تدرك مرة بإدراك يسمى علم اليقين ومرة بإدراك آخر يسمى عين اليقين وعين اليقين لا يكون إلا في الآخرة وعلم اليقين قد يكون في الدنيا ولك للذين قد وفوا حظهم من نور اليقين فلذلك قال الله تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم " أي في الدنيا " ثم لترونها عين اليقين " أي في الآخرة فإذن قد ظهر أن القلب الصالح لملك الآخرة لا يكون إلا عزيزاً كالشخص الصالح لملك الدنيا. قسمة سادسة حاوية لمجامع التعلم: اعلم أن النعم تنقسم إلى ما هي غاية مطلوبة لذاتها وإلى ما هي مطلوبة لأجل الغاية فإنها سعادة الآخرة ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاء لا فناء له وسرور لا غم فيه وعلم لا جهل معه وغنى لا فقر بعده وهي النعمة الحقيقية ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عيش إلا عيش الآخرة " وقال ذلك مرة في الشدة تسلية للنفس وذلك في وقت حفر الخندق في شدة الضر وقال ذلك مرة في السرور منعاً للنفس من الركون إلى سرور الدنيا وذلك عند إحداق الناس به في حجة الوداع. وقال رجل: اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وهل تعلم ما تمام النعمة " قال: لا قال: " تمام النعمة دخول الجنة ". وأما الوسائل فتنقسم إلى الأقرب الأخص كفضائل النفس وإلى ما يليه في القرب كفضائل البدن وهو الثاني وإلى ما يليه في القرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل والعشيرة وإلى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس وبين الحاصلة للنفس النوع الأول وهو الأخص: الفضائل النفسية ويرجع حاصلها مع انشعاب أطرافها إلى الإيمان وحسن الخلق وينقسم الإيمان إلى علم المكاشفة وهو العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته ورسله وإلى علوم المعاملة. وحسن الخلق ينقسم إلى قسمين: ترك مقتضى الشهوات والغضب واسمه العفة ومراعاة العدل في الكف عن مقتضى الشهوات والإقدام حتى لا يمتنع أصلاً ولا يقدم كيف شاء بل يكون إقدامه وإحجامه بالميزان العدل الذي أنزله الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى: " أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان " فمن خصي نفسه ليزيل شهوة النكاح أو ترك النكاح مع القدرة والأمن من الآفات أو ترك الأكل حتى ضعف عن العبادة والذكر والفكر فقد أخسر الميزان. ومن انهمك في شهوة البطن والفرج فقد طغى في الميزان وإنما العدل أن يخلو وزنه وتقديره عن الطغيان والخسران فتعتدل به كفتا الميزان فإذن الفضائل الخاصة بالنفس المقربة إلى الله تعالى أربعة: علم مكاشفة وعلم معاملة وعفة وعدالة. ولا يتم هذا في غالب الأمر إلا بالنوع الثاني وهو الفضائل البدنية وهي أربعة: الصحة والقوة والجمال وطول العمر. ولا تتهيأ هذه الأمور الأربعة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أربعة: المال والأهل والجاه وكرم العشيرة. ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة والبدنية إلا بالنوع الرابع وهي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسية الداخلة وهي أربعة: هداية الله ورشده وتسديده وتأييده. فمجموع هذه النعم ستة عشر إذا قسمناها إلى أربعة وقسمنا كل واحدة من الأربعة إلى أربعة وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى البعض إما حاجة ضرورية أو نافعة. أما الحاجة الضرورية فكحاجة سعادة الآخرة إلى الإيمان وحسن الخلق إذ لا سبيل إلى الوصول إلى سعادة الآخرة البتة إلا بهما فليس للإنسان إلا ما سعى وليس لأحد في الآخرة إلا ما تزود من الدنيا فكذلك حاجة الفضائل النفسية التي تكسب هذه العلوم وتهذيب الأخلاق إلى صحة البدن ضروري: وأما الحاجة النافعة على الجملة فكحاجة هذه النعم النفسية والبدنية إلى النعم الخارجة مثل المال والعز والأهل فإن ذلك لو عدم ربما تطرق الخلل وإلى بعض النعم الداخلة. فإن قلت: فما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة من المال والأهل والجاه والعشيرة فاعلم أن هذه الأسباب جارية مجرى الجناح المبلغ والآلة المسهلة للمقصود. أما المال فالفقير في طلب العلم والكمال وليس له كفاية: كساع إلى الهيجا بغير سلاح وكبازي يروم الصيد بلا جناح ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " نعم المال الصالح للرجل الصالح " وقال صلى الله عليه وسلم: " نعم العون على تقوى الله المال " وكيف لا ومن عدم المال صار مستغرق الأوقات في طلب الأقوات وفي تهيئة اللباس والمسكن وضرورات المعيشة ثم يتعرض لأنواع من الأذى تشغله عن الذكر والفكر ولا تندفع إلا بسلاح المال ثم مع ذلك يحرم عن فضيلة الحج والزكاة والصدقات وإفاضة الخيرات. وقال بعض الحكماء - وقد قيل له ما النعيم فقال: الغنى فإني رأيت الفقير لا عيش له. قيل: زدنا! قال: الأمن فإني رأيت الخائف لا عيش له. قيل: زدنا! قال: العافية فإني رأيت المريض لا عيش له. قيل: زدنا! قال الشباب فإني رأيت الهرم لا عيش له. وكأن ما ذكره إشارة إلى نعيم الدنيا ولكن من حيث إنه معين على الآخرة فهو نعمة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " وأما الأهل والولد الصالح فلا يخفى وجه الحاجة إليهما إذ قال صلى الله عليه وسلم: " نعم العون على الدين المرأة الصالحة " وقال صلى الله عليه وسلم في الولد: " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له. الحديث " وقد ذكرنا فوائد الأهل والولد في كتاب النكاح. وأما الأقارب فمهما كثر أولاد الرجل وأقاربه كانوا له مثل الأعين والأيدي فيتيسر له بسببهم من الأمور الدنيوية المهمة في دينه ما لو انفرد به لطال شغله وكل ما يفرغ قلبك من ضرورات الدنيا فهو معين لك على الدين فهو إذن نعمة. وأما العز والجاه فبه يدفع الإنسان عن نفسه الذل والضيم ولا يستغني عنه مسلم فإنه لا ينفك عن عدو يؤذيه وظالم يشوش عليه علمه وعمله وفراغه ويشغل قلبه وقلبه رأس ماله وإنما تندفع هذه الشواغل بالعز والجاه ولذلك قيل: الدين والسلطان توأمان. قال تعالى: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " ولامعنى للجاه إلا ملك القلوب كما لا معنى للغنى إلا ملك الدراهم ومن ملك الدراهم تسخرت له أرباب القلوب لدفع الأذى عنه فكما يحتاج إلى سقف يدفع عنه المطر وجبة تدفع عنه البرد وكلب يدفع عنه الذئب فيحتاج أيضاً إلى من يدفع الشر به عن نفسه وعلى هذا القصد كان الأنبياء الذين لا ملك لهم ولا سلطنة يراعون السلاطين ويطلبون عندهم الجاه وكذلك علماء الدين لا على قصد التناول من خزائنهم والاستئثار والاستكثار في الدنيا بمتابعتهم ولا تظن أن نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث نصره وأكمل دينه وأظهره على جميع أعدائه ومكن في القلوب حبه حتى اتسع به عزه وجاهه كانت أقل من نعمته عليه حيث كان يؤذي ويضرب حتى افتقر إلى الهرب والهجرة. فإن قلت: كرم العشيرة وشرف الأهل هو من النعم أم لا فأقول: نعم ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأئمة من قريش " ولذلك كان صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس أرومة في نسب آدم عليه السلاموقال صلى الله عليه وسلم: " تخيروا لنطفكم الأكفاء " وقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن " فقيل: وما خضراء الدمن قال: " المرأة الحسناء في المنبت السوء " فهذا أيضاً من النعم ولست أعني به الانتساب إلى الظلمة وأرباب الدنيا بل الانتساب إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أئمة العلماء وإلى الصالحين والأبرار المتوسمين بالعلم والعمل. فإن قلت: فما معنى الفضائل البدنية فأقول: لا خفاء بشدة الحاجة إلى الصحة والقوة وإلى طول العمر إذ لا يتم علم وعمل إلا بهما ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى " وإنما يستحقر من جملته أمر الجمال فيقال يكفي أن يكون البدن سليماً من الأمراض الشاغلة عن تحري الخيرات ولعمري الجمال قليل الغناء ولكنه من الخيرات أيضاً: أما في الدنيا فلا يخفى نفعه فيها وأما في الآخرة فمن وجهين: أحدهما أن القبيح مذموم والطباع عنه نافرة وحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب وجاهه في الصدور أوسع فكأنه من هذا الوجه جناح مبلغ كالمال والجاه إذ هو نوع قدرة إذ يقدر الجميل الوجه على تنجيز حاجات لا يقدر عليها القبيح وكل معين على قضاء حاجات الدنيا فمعين على الآخرة بواسطتها. والثاني: أن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس لأن نور النفس إذا تم إشراقه تأدى إلى البدن فالمنظر والمخبر كثيراً ما يتلازمان ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيهات البدن فقالوا: الوجه والعين مرآة الباطن. ولذلك يظهر فيه أثر الغضب والسرور والغم ولذلك قيل: طلاقة الوجه عنوان ما في النفس. وقيل: ما في الأرض قبيح إلا ووجهه أحسن ما فيه. واستعرض المأمون جيشاً فعرض عليه رجل قبيح فاستنطقه فإذا هو ألكن فأسقط اسمه في الديوان وقال: الروح إذا أشرقت على الظاهر فصباحة أو على الباطن ففصاحة وهذا ليس له ظاهر ولا باطن. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " اطلبوا الخير عند صباح الوجوه " وقال عمر رضي الله تعالى عنه: " إذا بعثتم رسولاً فاطلبوه حسن الوجه حسن الاسم. وقال الفقهاء: إذا تساوت درجات المصلين فأحسنهم وجهاً أولاهم بالإمامة وقال تعالى ممتناً بذلك: " وزاده بسطة في العلم والجسم " ولسنا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة فإن ذلك أنوثة وإنما نعني به ارتفاع القامة على الاستقامة مع الاعتدال في اللحم وتناسب الأعضاء وتناصف خلقة الوجه بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه. فإن قلت: فقد أدخلت المال والجاه والنسب والأهل والولد في حيز النعم وقد ذم الله تعالى المال والجاه وكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا العلماء. قال تعالى: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم " وقال عز وجل: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " وقال علي كرم الله وجهه في ذم النسب: الناس أبناء ما يحسنون وقيمة كل امرئ ما يحسنه وقيل: المرء بنفسه لا بأبيه. فما معنى كونها نعمة مذمومة شرعاً فاعلم أن من يأخذ العلوم من الألفاظ المنقولة المؤولة والعمومات المخصصة كان الضلال عليه أغلب ما لم يهتد بنور الله تعالى إلى إدراك العلوم على ما هي عليه ثم ينزل النقل على وفق ما ظهر له منها بالتأويل مرة وبالتخصيص أخرى فهذه نعم معينة على أمر الآخرة لا سبيل إلى جسدها إلا أن فيها فتنة ومخاوف فمثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز عن سمها وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة وإن أصابها السوادي الغر فهي عليه بلاء وهلاك وهو مثل البحر الذي تحته أصناف الجواهر واللآلئ فمن ظفر بالبحر فإن كان عالماً بالسباحة وطريق الغوص وطريق الاحتراز عن مهلكات البحر فقد ظفر بنعمه وإن خاضه جاهلاً بذلك فقد هلك فلذلك مدح الله تعالى المال وسماه خيراً ومدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " نعم العون على تقوى الله تعالى المال " وكذلك مدح الجاه والعز إذ منّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن أظهره على الدين كله وحببه في قلوب الخلق وهو المعني بالجاه ولكن المنقول في مدحهما قليل والمنقول في ذم المال والجاه كثير وحيث ذم الرياء فهو ذم الجاه إذ الرياء مقصوده اجتلاب القلوب. ومعنى الجاه ملك القلوب وإنما كثر هذا وقل ذاك لأن الناس أكثرهم جهال بطريق الرقية لحية المال وطريق الغوص في بحر الجاه فوجب تحذيرهم فإنهم يهلكون بسم المال قبل الوصول إلى ترياقه ويهلكهم تمساح بحر الجاه قبل العثور على جواهره ولو كانا في أعيانهما مذمومين بالإضافة إلى كل أحد لما تصور أن ينضاف إلى النبوة الملك كما كان لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولا أن ينضاف إليها الغنى كما كان لسليمان عليه السلام فالناس كلهم صبيان والأموال حيات والأنبياء والعارفون معزمون فقد يضر الصبي ما لا يضر المعزم. نعم المعزم لو كان له ولد يريد بقاءه وصلاحه وقد وجد حية وعلم أنه لو أخذها لأجل ترياقها لاقتدى به ولده وأخذ الحية إذا رآها ليلعب بها فيهلك فله غرض في الترياق وله غرض في حفظ الولد فواجب عليه أن يزن غرضه في الترياق بغرضه في حفظ الولد فإذا كان يقدر على الصبر عن الترياق ولا يستضر به ضرراً كثيراً ولو أخذها لأخذها الصبي ويعظم ضرره بهلاكه فواجب عليه أن يهرب عن الحية إذا رآها ويشير على الصبي بالهرب ويقبح صورتها في عينه ويعرفه أن فيها سماً قاتلاً لا ينجو منه أحد ولا يحدثه أصلاً بما فيها من نفع الترياق فإن ذلك ربما يغره فيقدم عليه من غير تمام المعرفة وكذلك الغواص إذا علم أنه لو غاص في البحر بمرأى من ولده لاتبعه وهلك. فواجب عليه أن يحذر الصبي ساحل البحر والنهر. فإن كان لا ينزجر الصبي بمجرد الزجر مهما رأى والده يحوم حول الساحل فواجب عليه أن يبعد من الساحل مع الصبي ولا يقرب منه بين يديه فكذلك الأمة في حجر الأنبياء عليهم السلام كالصبيان الأغبياء. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا لكم مثل الوالد لولده " وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما تتهافتون على النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم " وحظهم الأوفر في حفظ أولادهم عن المهالك فإنهم لم يبعثوا إلا لذلك وليس لهم في المال حظ إلا بقدر القوت فلا جرم اقتصروا على قدر القوت وما فضل فلم يمسكوه بل أنفقوه فإن الإنفاق فيه الترياق وفي الإمساك السم ولو فتح للناس باب كسب المال ورغبوا فيه لمالوا إلى سم الإمساك ورغبوا عن ترياق الإنفاق فلذلك قبحت الأموال والمعنى به تقبيح إمساكها والحرص عليها للاستكثار منها والتوسع في نعيمها بما يوجب الركون إلى الدنيا ولذتها فأما أخذها بقدر الكفاية وصرف الفاضل إلى الخيرات فليس بمذموم وحق كل مسافر أن لا يحمل إلا بقدر زاده في السفر إذا صمم العزم على أن يختص بما يحمله فأما إذا سمحت نفسه بإطعام الطعام وتوسيع الزاد على الرفقاء فلا بأس بالاستكثار. وقوله عليه الصلاة والسلام: " ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب " معناه لأنفسكم خاصة ولا فقد كان فيمن يروي هذا الحديث ويعمل به من يأخذ ألف درهم في موضع واحد ويفرقها في موضعه وإلا يمسك منها حبة. ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأغنياء يدخلون الجنة بشدة استأذنه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في أن يخرج عن جميع ما يملكه فأذن له فنزل جبريل عليه السلام وقال: مره بأن يطعم المسكين ويكسو العاري ويقري الضيف. الحديث فإذن النعم الدنيوية مشوبة قد امتزج دواؤها بدائها ومرجوها بمخوفها ونفعها بضرها فمن وثق ببصيرته وكمال معرفته فله أن يقرب منها متقياً داءها ومستخرجاً دواءها ومن لا يثق بها فالبعد البعد والفرار الفرار عن مظان الأخطار فلا تعدل بالسلامة شيئاً في حق هؤلاء وهم الخلق كلهم إلا من عصمه الله تعالى وهداه لطريقه. فإن قلت: فما معنى النعم التوفيقية الراجعة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد فاعلم أن التوفيق لا يستغني عنه أحد وهو عبارة عن التأليف والتلفيق بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدره وهذا يشمل الخير والشر وما هو سعادة وما هو شقاوة ولكن جرت العادة بتخصيص اسم التوفيق بما يوافق السعادة من جملة قضاء الله تعالى وقدره كما أن الإلحاد عبارة عن الميل فخصص بمن مال إلى الباطل عن الحق وكذا الارتداد ولا خفاء بالحاجة إلى التوفيق ولذلك قيل: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده فأما الهداية فلا سبيل لأحد إلى طلب السعادة إلا بها لأن داعية الإنسان قد تكون مائلة إلى ما فيه صلاح آخرته ولكن إذا لم يعلم ما فيه صلاح آخرته حتى يظن الفساد صلاحاً فمن أين ينفعه مجرد الإرادة فلا فائدة في الإرادة والقدرة والأسباب إلا بعد الهداية ولذلك قال تعالى: " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " وقال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء " وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى " أي بهدايته فقيل: ولا أنت يا رسول الله قال: " ولا أنا ".
وللهداية ثلاثة منازل: الأولى معرفة طريق الخير والشر المشار إليه بقوله تعالى: " وهديناه النجدين " وقد أنعم الله تعالى به على كافة عباده بعضه بالعقل وبعضه على لسان الرسل ولذلك قال تعالى: " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " فأسباب الهدى هي الكتاب والرسل وبصائر العقول وهي مبذولة ولا يمنع منها إلا الحسد والكبر وحب الدنيا والأسباب التي تعمي القلوب وإن كانت لا تعمي البصر قال تعالى: " فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور " ومن جملة المعميات: الإلف والعادة وحب استصحابهما وعنه العبارة بقوله تعالى: " إنا وجدنا آباءنا على أمة " الآية. وعن الكبر والحسد العبارة بقوله تعالى: " وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " وقوله تعالى: " أبشرا منا واحداً نتبعه " فهذه المعميات هي التي منعت الاهتداء. والهداية الثانية وراء هذه الهداية العامة وهي التي يمد الله تعالى بها العبد حالاً بعد حال وهي ثمرة المجاهدة حيث قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " وهو المراد بقوله تعالى: " والذين اهتدوا زادهم هدى ". والهداية الثالثة وراء الثانية: وهو النور الذي يشرق في عالم النبوة والولاية بعد كمال المجاهدة فيهتدي بها إلا ما لا يهتدى إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف وإمكان تعلم العلوم وهو الهوى المطلق وما عداه حجاب له ومقدمات وهو الذي شرفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه وإن كان الكل من جهته تعالى فقال تعالى: " قل إنّ هدى الله هو الهدى " وهو المسمى حياة في قوله تعالى: " أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس " والمعنى بقوله تعالى: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " وأما الرشد فنعني به العناية الإلهية التي تعين الإنسان عند توجهه إلى مقاصده فتقويه على ما فيه صلاحه وتفتره عما فيه فساده ويكون ذلك من الباطن كما قال تعالى: " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين " فالرشد عبارة عن هداية باعثة إلى جهة السعادة محركة إليها فالصبي إذا بلغ خبيراً بحفظ المال وطرق التجارة والاستنماء ولكنه مع ذلك يبذر ولا يريد الاستنماء لا يسمى رشيداً لا لعدم هدايته بل لقصور هدايته عن تحريك داعيته فكم من شخص يقدم على ما يعلم أنه يضره فقد أعطي الهداية وميز بها عن الجاهل الذي لا يدري أنه يضره ولكن ما أعطى الرشد فالرشد بهذا الاعتبار أكمل من مجرد الهداية إلى وجوه الأعمال وهي نعمة عظيمة. وأما التسديد فهو توجيه حركاته إلى صوب المطلوب وتيسرها عليه ليشتد في صوب الصواب في أسرع وقت فإن الهداية بمجردها لا تكفي بل لا بد من هداية محركة للداعية وهي الرشد والرشد لا يكفي بل لا بد من تيسر الحركات بمساعدة الأعضاء والآلات حتى يتم المراد مما انبعثت الداعية إليه كالهداية محض التعريف والرشد هو تنبيه الداعية لتستيقظ وتتحرك والتسديد إعانة ونصرة بتحريك الأعضاء في صوب السداد وأما التأييد فكأنه جامع للكل وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج وهو المراد بقوله عز وجل: " إذ أيدتك بروح القدس " وتقرب منه العصمة وهي عبارة عن وجود إلهي يسبح في الباطن يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر يصير كمانع من باطنه غير محسوس وإياه عنى بقوله تعالى: " ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه " فهذه هي مجامع النعم ولن تثبت إلا بما يخوله الله من الفهم الصافي الثاقب والسمع الواعي والقلب البصير المراعي المتواضع والمعلم الناصح والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلته القاصر عما يشغل عن الدين بكثرته والعز الذي يصونه عن سفه السفهاء وظلم الأعداء ويستدعي كل واحد من هذه الأسباب الستة عشر أسباباً وتستدعي تلك الأسباب أسباباً إلى أن تنتهي بالآخرة إلى دليل المتحيرين وملجأ المضطرين وذلك رب الأرباب ومسبب الأسباب وإذا كانت تلك الأسباب طويلة لا يحتمل مثل هذا الكتاب استقصاءها فلنذكر منها أنموذجاً ليعلم به معنى قوله تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " وبالله التوفيق.
|